سورة الرحمن - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الرحمن)


        


{مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55)}
وفيه مسائل نحوية ولغوية ومعنوية.
المسألة الأولى من النحوية: هو أن المشهور أن (متكئين) حال وذو الحال من في قوله: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ} [الرحمن: 46] والعامل ما يدل عليه اللام الجارة تقديره لهم في حال الاتكاء جنتان وقال صاحب الكشاف: يحتمل أن يكون نصباً على المدح، وإنما حمله على هذا إشكال في قول من قال: إنه حال وذلك لأن الجنة ليست لهم حال الإتكاء بل هي لهم في كل حال فهي قبل الدخول لهم، ويحتمل أن يقال: هو حال وذو الحال ما تدل عليه الفاكهة. لأن قوله تعالى: {فِيهِمَا مِن كُلّ فاكهة زَوْجَانِ} [الرحمن: 52] يدل على متفكهين بها كأنه قال: يتفكه المتفكهون بها، متكئين، وهذا فيه معنى لطيف، وذلك لأن الأكل إن كان ذليلاً كالخول والخدم والعبيد والغلمان، فإنه يأكل قائماً، وإن كان عزيزاً فإن كان يأكل لدفع الجوع يأكل قاعداً ولا يأكل متكئاً إلا عزيز متفكه ليس عنده جوع يقعده للأكل، ولا هنالك من يحسمه، فالتفكه مناسب للإتكاء.
المسألة الثانية من المسائل النحوية: {عَلَى فُرُشٍ} متعلق بأي فعل هو؟ إن كان متعلقاً بما في {مُتَّكِئِينَ}، حتى يكون كأنه يقول: يتكئون على فرش كما كان يقال: فلان اتكأ على عصاه أو على فخذيه فهو بعيد لأن الفراش لا يتكأ عليه، وإن كان متعلقاً بغيره فماذا هو؟ نقول: متعلق بغيره تقديره يتفكه الكائنون على فرش متكئين من غير بيان ما يتكئون عليه، ويحتمل أن يكون اتكاؤهم على الفرش غير أن الأظهر ما ذكرنا ليكون ذلك بياناً لما تحتهم وهم بجميع بدنهم عليه وهو أنعم وأكرم لهم.
المسألة الثالثة: الظاهر أن لكل واحد فرشاً كثيرة لا أن لكل واحد فراشاً فلكلهم فرش عليها كائنون.
المسألة الرابعة لغوية: الاستبرق هو الديباج الثخين وكما أن الديباج معرب بسبب أن العرب لم يكن عندهم ذلك إلا من العجم، استعمل الاسم المعجم فيه غير أنهم تصرفوا فيه تصرفاً وهو أن اسمه بالفارسية ستبرك بمعنى ثخين تصغير ستبر فزادوا فيه همزة متقدمة عليه، وبدلوا الكاف بالقاف، أما الهمزة، فلأن حركات أوائل الكلمة في لسان العجم غير مبنية في كثير من المواضع فصارت كالسكون، فأثبتوا فيه همزة كما أثبتوا همزة الوصل عند سكون أول الكلمة، ثم إن البعض جعلوها همزة وصل وقالوا: {مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} والأكثرون جعلوها همزة قطع لأن أول الكلمة في الأصل متحرك لكن بحركة فاسدة فأتوا بهمزة تسقط عنهم الحركة الفاسدة وتمكنهم من تسكين الأول وعند تساوي الحركة، فالعود إلى السكون أقرب، وأواخر الكلمات عند الوقف تسكن ولا تبدل حركة بحركة، وأما القاف فلأنهم لو تركوا الكاف لاشتبه ستبرك بمسجدك ودارك، فأسقطوا منه الكاف التي هي على لسان العرب في آخر الكلم للخطاب وأبدلوها قافاً ثم عليه سؤال مشهور، وهو أن القرآن أنزل بلسان عربي مبين، وهذا ليس بعربي، والجواب الحق أن اللفظة في أصلها لم تكن بين العرب بلغة، وليس المراد أنه أنزل بلغة هي في أصل وضعها على لسان العرب، بل المراد أنه منزل بلسان لا يخفى معناه على أحد من العرب ولم يستعمل فيه لغة لم تتكلم العرب بها، فيصعب عليهم مثله لعدم مطاوعة لسانهم التكلم بها فعجزهم عن مثله ليس إلا لمعجز.
المسألة الخامسة: معنوية الإتكاء من الهيئات الدالة على صحة الجسم وفراغ القلب، فالمتكئ تكون أمور جسمه على ما ينبغي وأحوال قلبه على ما ينبغي، لأن العليل يضطجع ولا يستلقي أو يستند إلى شيء على حسب ما يقدر عليه للاستراحة، وأما الإتكاء بحيث يضع كفه تحت رأسه ومرفقه على الأرض ويجافي جنبيه عن الأرض فذاك أمر لا يقدر عليه، وأما مشغول القلب في طلب شيء فتحركه تحرك مستوفز.
المسألة السادسة: قال أهل التفسير قوله: {بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} يدل على نهاية شرفها فإن ما تكون بطائنها من الإستبرق تكون ظهائرها خيراً منها، وكأن شيء لا يدركه البصر من سندس وهو الديباج الرقيق الناعم، وفيه وجه آخر معنوي وهو أن أهل الدنيا يظهرون الزينة ولا يتمكنون من أن يجعلوا البطائن كالظهائر، لأن غرضهم إظهار الزينة والبطائن لا تظهر، وإذا انتفى السبب انتفى المسبب، فلما لم يحصل في جعل البطائن من الديباج مقصودهم وهو الإظهار تركوه، وفي الآخرة الأمر مبني على الإكرام والتنعيم فتكون البطائن كالظهائر فذكر البطائن.
المسألة السابعة: قوله تعالى: {وَجَنَى الجنتين دَانٍ} فيه إشارة إلى مخالفتها لجنة دار الدنيا من ثلاثة أوجه: أحدها: أن الثمرة في الدنيا على رءوس الشجرة والإنسان عند الاتكاء يبعد عن رءوسها وفي الآخرة هو متكئ والثمرة تنزل إليه ثانيها: في الدنيا من قرب من ثمرة شجرة بعد عن الأخرى وفي الآخرة كلها دان في وقت واحد ومكان واحد، وفي الآخرة المستقر في جنة عنده جنة أخرى ثالثها: أن العجائب كلها من خواص الجنة فكان أشجارها دائرة عليهم ساترة إليهم وهم ساكنون على خلاف ما كان في الدنيا وجناتها وفي الدنيا الإنسان متحرك ومطلوبه ساكن، وفيه الحقيقة وهي أن من لم يكسل ولم يتقاعد عن عبادة الله تعالى، وسعى في الدنيا في الخيرات انتهى أمره إلى سكون لا يحوجه شيء إلى حركة، فأهل الجنة إن تحركوا تحركوا لا لحاجة وطلب، وإن سكنوا سكنوا لا لاستراحة بعد التعب، ثم إن الولي قد تصير له الدنيا أنموذجاً من الجنة، فإنه يكون ساكناً في بيته ويأتيه الرزق متحركاً إليه دائراً حواليه، يدلك عليه قوله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا} [آل عمران: 37].
المسألة الثامنة: الجنتان إن كانتا جسميتين فهو أبداً يكون بينهما وهما عن يمينه وشماله هو يتناول ثمارهما وإن كانت إحداهما روحية والأخرى جسمية فلكل واحد منهما فواكه وفرش تليق بها.


{فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57)}
وفيه مباحث:
الأول: في الترتيب وأنه في غاية الحسن لأنه في أول الأمر بين المسكن وهو الجنة، ثم بين ما يتنزه به فإن من يدخل بستاناً يتفرج أولاً فقال: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ * فِيهِمَا عَيْنَانِ} [الرحمن: 48- 50] ثم ذكر ما يتناول من المأكول فقال: {فِيهِمَا مِن كُلّ فاكهة} [الرحمن: 52] ثم ذكر موضع الراحة بعد التناول وهو الفراش، ثم ذكر ما يكون في الفراش معه.
الثاني: {فِيهِنَّ} الضمير عائد إلى ماذا؟ نقول: فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: إلى الآلاء والنعم أي قاصرات الطرف ثانيها: إلى الفراش أي في الفرش قاصرات وهما ضعيفان، أما الأول فلأن اختصاص القاصرات بكونهن في الآلاء مع أن الجنتين في الآلاء والعينين فيهما والفواكه كذلك لا يبقى له فائدة، وأما الثاني فلأن الفرش جعلها ظرفهم حيث قال: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ} [الرحمن: 54] وأعاد الضمير إليها بقوله: {بَطَائِنُهَا} [الرحمن: 54] ولم يقل: بطائنهن، فقوله: {فِيهِنَّ} يكون تفسيراً للضمير فيحتاج إلى بيان فائدة لأنه تعالى قال بعد هذا مرة أخرى: {فِيهِنَّ خيرات} [الرحمن: 70] ولم يكن هناك ذكر الفرش فالأصح إذن هو الوجه الثالث: وهو أن الضمير عائد إلى الجنتين، وجمع الضمير هاهنا وثنى في قوله: {فِيهِمَا عَيْنَانِ} [الرحمن: 50] و: {فِيهِمَا مِن كُلّ فاكهة} [الرحمن: 52] وذلك لأنا بينا أن الجنة لها اعتبارات ثلاثة أحدها: اتصال أشجارها وعدم وقوع الفيافي والمهامة فيها والأراضي الغامرة، ومن هذا الوجه كأنها جنة واحدة لا يفصلها فاصل.
وثانيها: اشتمالها على النوعين الحاصرين للخيرات، فإن فيها ما في الدنيا، وما ليس في الدنيا وفيها ما يعرف، ومالا يعرف، وفيها ما يقدر على وصفه، وفيها مالا يقدر، وفيها لذات جسمانية ولذات غير جسمانية فلاشتمالها على النوعين كأنها جنتان.
وثالثها: لسعتها وكثرة أشجارها وأماكنها وأنهارها ومساكنها كأنها جنات، فهي من وجه جنة واحدة ومن وجه جنتان ومن وجه جنات.
إذا ثبت هذا فنقول: اجتماع النسوان للمعاشرة مع الأزواج والمباشرة في الفراش في موضع واحد في الدنيا لا يمكن، وذلك لضيق المكان، أو عدم الإمكان أو دليل ذلة النسوان، فإن الرجل الواحد لا يجمع بين النساء في بيت إلا إذا كن جواري غير ملتفت إليهن، فأما إذا كانت كل واحدة كبيرة النفس كثيرة المال فلا يجمع بينهن، واعلم أن الشهوة في الدنيا كما تزداد بالحسن الذي في الأزواج تزداد بسبب العظمة وأحوال الناس في أكثر الأمر تدل عليه، إذا ثبت هذا فنقول: الحظايا في الجنة يجتمع فيهن حسن الصورة والجمال والعز والشرف والكمال، فتكون الواحدة لها كذا وكذا من الجواري والغلمان فتزداد اللذة بسبب كمالها، فإذن ينبغي أن يكون لكل واحدة ما يليق بها من المكان الواسع فتصير الجنة التي هي واحدة من حيث الاتصال كثيرة من حيث تفرق المساكن فيها فقال: {فِيهِنَّ} وأما الدنيا فليس فيها تفرق المساكن دليلاً للعظمة واللذة فقال: {فِيهِمَا} [الرحمن: 50] وهذا من اللطائف الثالث: قاصرات الطرف صفة لموصوف حذف، وأقيمت الصفة مكانه، والموصوف النساء أو الأزواج كأنه قال فيهن نساء قاصرات الطرف وفيه لطيفة: فإنه تعالى لم يذكر النساء إلا بأوصافهن ولم يذكر اسم الجنس فيهن، فقال تارة: {وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة: 22] وتارة: {عُرُباً أَتْرَاباً} [الواقعة: 37] وتارة: {قاصرات الطرف} [الرحمن: 56] ولم يذكر نساء كذا وكذا لوجهين:
أحدهما: الإشارة إلى تخدرهن وتسترهن، فلم يذكرهن باسم الجنس لأن اسم الجنس يكشف من الحقيقة مالا يكشفه الوصف فإنك إذا قلت المتحرك المريد الآكل الشارب لا تكون بينته بالأوصاف الكثيرة أكثر مما بينته بقولك: حيوان وإنسان وثانيهما: إعظاماً لهن ليزداد حسنهن في أعين الموعودين بالجنة فإن بنات الملوك لا يذكرن إلا بالأوصاف.
المسألة الرابعة: {قاصرات الطرف} من القصر وهو المنع أي المانعات أعينهن من النظر إلى الغير، أو من القصور، وهو كون أعينهن قاصرة لا طماح فيها للغير، أقول والظاهر أنه من القصر إذ القصر مدح والقصور ليس كذلك، ويحتمل أن يقال: هو من القصر بمعنى أنهن قصرن أبصارهن، فأبصارهن مقصورة وهن قاصرات فيكون من إضافة الفاعل إلى المفعول والدليل عليه هو أن القصر مدح والقصور ليس كذلك، وعلى هذا ففيه لطيفة وهي أنه تعالى قال من بعد هذه: {حُورٌ مقصورات} [الرحمن: 72] فهن مقصورات وهن قاصرات، وفيه وجهان:
أحدهما: أن يقال: هن قاصرات أبصارهن كما يكون شغل العفائف، وهن قاصرات أنفسهن في الخيام كما هو عادة المخدرات لأنفسهن في الخيام ولأبصارهن عن الطماح وثانيهما: أن يكون ذلك بياناً لعظمتهن وعفافهن وذلك لأن المرأة التي لا يكون لها رادع من نفسها ولا يكون لها أولياء يكون فيها نوع هوان، وإذا كان لها أولياء أعزة امتنعت عن الخروج والبروز، وذلك يدل على عظمتهن، وإذا كن في أنفسهن عند الخروج لا ينظرن يمنة ويسرة فهن في أنفسهن عفائف، فجمع بين الإشارة إلى عظمتهن بقوله تعالى: {مقصورات} منعهن أولياؤهن وهاهنا وليهن الله تعالى، وبين الإشارة إلى عفتهن بقوله تعالى: {قاصرات الطرف} ثم تمام اللطف أنه تعالى قدم ذكر ما يدل على العفة على ما يدل على العظمة وذكر في أعلى الجنتين قاصرات وفي أدناهما مقصورات، والذي يدل على أن المقصورات يدل على العظمة أنهن يوصفن بالمخدرات لا بالمتخدرات، إشارة إلى أنهن خدرهن خادر لهن غيرهن كالذي يضرب الخيام ويدلي الستر، بخلاف من تتخذه لنفسها وتغلق بابها بيدها، وسنذكر بيانه في تفسير الآية بعد.
المسألة الخامسة: {قاصرات الطرف} فيها دلالة عفتهن، وعلى حسن المؤمنين في أعينهن، فيجبن أزواجهن حباً بشغلهن عن النظر إلى غيرهم، ويدل أيضاً على الحياء لأن الطرف حركة الجفن، والحورية لا تحرك جفنها ولا ترفع رأسها.
المسألة السادسة: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ} فيه وجوه:
أحدها: لم يفرعهن ثانيها: لم يجامعهن ثالثها: لم يمسسهن، وهو أقرب إلى حالهن وأليق بوصف كمالهن، لكن لفظ الطمث غير ظاهر فيه ولو كان المراد منه المس لذكر اللفظ الذي يستحسن، وكيف وقد قال تعالى: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237] وقال: {فاعتزلوا} [البقرة: 222] ولم يصرح بلفظ موضوع للوطء، فإن قيل: فما ذكرتم من الإشكال باق وهو أنه تعالى كنى عن الوطء في الدنيا باللمس كما في قوله تعالى: {أَوْ لامستم النساء} [النساء: 43] على الصحيح في تفسير الآية وسنذكره، وإن كان على خلاف قول إمامنا الشافعي رضي الله عنه وبالمس في قوله: {مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237] ولم يذكر المس في الآخرة بطريق الكناية، نقول: إنما ذكر الجماع في الدنيا بالكناية لما أنه في الدنيا قضاء للشهوة وأنه يضعف البدن ويمنع من العبادة، وهو في بعض الأوقات قبحه كقبح شرب الخمر، وفي بعض الأوقات هو كالأكل الكثير وفي الآخرة مجرد عن وجوه القبح، وكيف لا والخمر في الجنة معدودة من اللذات وأكلها وشربها دائم إلى غير ذلك، فالله تعالى ذكره في الدنيا بلفظ مجازي مستور في غاية الخفاء بالكناية إشارة إلى قبحه وفي الآخرة ذكره بأقرب الألفاظ إلى التصريح أو بلفظ صريح، لأن الطمث أدل من الجماع والوقاع لأنهما من الجمع والوقوع إشارة إلى خلوه عن وجوه القبح.
المسألة السابعة: ما الفائدة في كلمة {قَبْلَهُمْ}؟ قلنا لو قال: لم يطمثهن إنس ولا جان يكون نفياً لطمث المؤمن إياهن وليس كذلك.
المسألة الثامنة: ما الفائدة في ذكر الجان مع أن الجان لا يجامع؟ نقول: ليس كذلك بل الجن لهم أولاد وذريات وإنما الخلاف في أنهم هل يواقعون الإنس أم لا؟ والمشهور أنهم يواقعون وإلا لما كان في الجنة أحساب ولا أنساب، فكأن مواقعة الإنس إياهن كمواقعة الجن من حيث الإشارة إلى نفيها.


{كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59)}
وهذا التشبيه فيه وجهان:
أحدهما: تشبيه بصفائهما وثانيهما: بحسن بياض اللؤلؤ وحمرة الياقوت، والمرجان صغار اللؤلؤ وهي أشد بياضاً وضياء من الكبار بكثير، فإن قلنا: إن التشبيه لبيان صفائهن، فنقول: فيه لطيفة هي أن قوله تعالى: {قاصرات الطرف} إشارة إلى خلوصهن عن القبائح، وقوله: {كَأَنَّهُنَّ الياقوت والمرجان} إشارة إلى صفائهن في الجنة، فأول ما بدأ بالعقليات وختم بالحسيات، كما قلنا: إن التشبيه لبيان مشابهة جسمهن بالياقوت والمرجان في الحمرة والبياض، فكذلك القول فيه حيث قدم بيان العفة على بيان الحسن ولا يبعد أن يقال: هو مؤكد لما مضى لأنهن لما كن قاصرات الطرف ممتنعات عن الاجتماع بالإنس والجن لم يطمثهن فهن كالياقوت الذي يكون في معدنه والمرجان المصون في صدفه لا يكون قد مسه يد لامس، وقد بينا مرة أخرى في قوله تعالى: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} أن (كأن) الداخلة على المشبه به لا تفيد من التأكيد ما تفيده الداخلة على المشبه، فإذا قلت: زيد كالأسد، كان معناه زيد يشبه الأسد، وإذا قلت كأن زيداً الأسد فمعناه يشبه أن زيداً هو الأسد حقيقة، لكن قولنا: زيد يشبه الأسد ليس فيه مبالغة عظيمة، فإنه يشبهه في أنهما حيوانان وجسمان وغير ذلك، وقولنا: زيد يشبه لا يمكن حمله على الحقيقة، أما من حيث اللفظ فنقول: إذا دخلت الكاف على المشبه به، وقيل: إن زيداً كالأسد عملت الكاف في الأسد عملاً لفظياً والعمل اللفظي مع العمل المعنوي، فكأن الأسد عمل به عمل حتى صار زيداً، وإذا قلت: كأن زيداً الأسد تركت الأسد على إعرابه فإذن هو متروك على حاله وحقيقته وزيد يشبه به في تلك الحال ولا شك في أن زيداً إذا شبه بأسد هو على حاله باق يكون أقوى مما إذا شبه بأسد لم يبق على حاله، وكأن من قال: زيد كالأسد نزل الأسد عن درجته فساواه زيد، ومن قال: كأن زيداً الأسد رفع زيداً عن درجته حتى ساوى الأسد، وهذا تدقيق لطيف.

7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14